الاحتلال الإسرائيلي لسوريا- استغلال الفراغ، ترسيخ الوجود، ومخاطر مستقبلية

المؤلف: د. سعيد الحاج09.27.2025
الاحتلال الإسرائيلي لسوريا- استغلال الفراغ، ترسيخ الوجود، ومخاطر مستقبلية

استغلت "إسرائيل"، ببراغماتية وانتهازية، حالة الفوضى والاضطراب التي أعقبت سقوط نظام الأسد في سوريا، لتعزيز نفوذها ومصالحها في المنطقة. وقد تجلى ذلك في استيلائها على مناطق إضافية، وقصفها المكثف للبنية التحتية الإستراتيجية السورية، بهدف تحقيق سلسلة من الأهداف التي تجعلها الخصم اللدود لأي حكومة قادمة في دمشق، سواء على الصعيدين النظري والعملي.

استغلال الفرصة

منذ توقيع اتفاقية "فض الاشتباك" عام 1974، حافظت جبهة الجولان على هدوء نسبي بين النظام السوري و"إسرائيل". ومع اندلاع الثورة السورية عام 2011، سارع النظام إلى تصوير الأحداث على أنها "مؤامرة كونية" تستهدفه، متهماً المعارضين بالعمالة للولايات المتحدة و"إسرائيل". في المقابل، رأت المعارضة أن الحفاظ على النظام يصب في مصلحة "إسرائيل"، وأنه السبب وراء استمرار بقائه في السلطة طوال سنوات الثورة.

مع انطلاق عملية "ردع العدوان"، صرح وزير خارجية الاحتلال آنذاك، جدعون ساعر، بأن "إسرائيل" تنظر بعين الريبة إلى كل من النظام والمعارضة، وأن حليفها الطبيعي الوحيد في سوريا هم الأقليات، في إشارة واضحة إلى الدروز في الجنوب والأكراد في الشمال.

وفي وقت سابق، وخلال المواجهات المسلحة مع حزب الله في جنوب لبنان، أقدمت قوات الاحتلال على إزالة الأسلاك الشائكة في الجولان، متوغلة داخل الأراضي السورية. ومع تداعي سلطة الأسد، أعلن نتنياهو "انهيار اتفاق فض الاشتباك"، مما سمح لقوات الاحتلال بالتوسع في المنطقة العازلة التي كانت قد أنشئت كمنطقة منزوعة السلاح بين الجزء المحتل من هضبة الجولان وبقية الأراضي السورية.

وفي غضون أيام معدودة، نفذ الطيران الحربي "الإسرائيلي" مئات الغارات الجوية، معلناً تدمير معظم الأسلحة والمرافق الإستراتيجية السورية، بما في ذلك الطائرات والدبابات والسفن والمصانع والمعامل الدفاعية، في ما وصف بأنه "أكبر عملية جوية في تاريخ إسرائيل".

وفي سياق متصل، أفاد مصدر أمني بأن قوات الاحتلال وصلت إلى مسافة 25 كيلومترًا من العاصمة دمشق. وفي السابع عشر من الشهر الجاري، قام نتنياهو، يرافقه وزير الدفاع كاتس ورئيس الأركان هاليفي ورئيس جهاز الشاباك بار وقائد المنطقة الشمالية غوردين، بزيارة مواقع جيش الاحتلال في قمة جبل الشيخ، حيث أكد كاتس على ضرورة "ترسيخ الوجود" في المنطقة بهدف البقاء لفترة طويلة، مشدداً على أهمية السيطرة على المرتفعات.

نتيجة لهذا التوغل والقصف المتواصل، حققت "إسرائيل" عدة مكاسب في وقت واحد، حيث فرضت واقعاً جديداً يعزز قدراتها التجسسية والعسكرية المباشرة وغير المباشرة في سوريا (وبالتالي في لبنان)، ويقوي موقفها التفاوضي مع أي قيادة مستقبلية لسوريا. بالإضافة إلى ذلك، تمكنت من تدمير قدرات تسليحية حيوية ساهمت في إضعاف الدولة السورية لفترة غير محددة في المستقبل، وإخراجها من دائرة التهديد، ولو نظرياً أو نسبياً. وعلاوة على ذلك، مارست ضغوطاً باتجاه سعي النظام الجديد في سوريا إلى شراء الأسلحة من جهات غربية، على أمل التأثير على توجهات الدولة في المستقبل.

منطق الدولة

على مر سنوات الثورة السورية، وخاصة بعد تدخل إيران والميليشيات التابعة لها، وفي مقدمتها حزب الله، إلى جانب النظام، شاعت مقولة بين أوساط المعارضة السورية بأن إيران هي العدو الأول للسوريين في هذه المرحلة، نظراً للمواجهة العسكرية والتأثير الأيديولوجي والتغيير الديمغرافي. بينما تبقى "إسرائيل" عدواً استراتيجياً، لكن "مؤجلاً".

وعلى الرغم من أن سقوط النظام أدى إلى انسحاب شبه كامل لإيران من سوريا، وتراجع نفوذ حزب الله في لبنان، وظهور تصريحات محايدة بشأن الوضع الجديد في سوريا، وعلى الرغم من الإجماع الإقليمي والدولي على ضرورة "تقليم أظافر إيران" في المنطقة، فإن بعض الأصوات ما زالت تصر على استمرار الخطر الإيراني وأولويته بالنسبة لدمشق ونظامها المستقبلي.

لا يقتصر هذا المنظور على تجاهل التحركات الخطيرة التي قامت بها "إسرائيل" مؤخراً، والتي أُشير إليها سابقاً، بل إنه يخلط أيضاً بين منطق الثورة ومنطق الدولة. فمن المفهوم أن تُعلن إيران عدواً تجب مواجهته في سنوات الثورة، عندما قاتلت المعارضة ضد النظام. أما وقد سقط النظام، وبدأ يتشكل نظام جديد، فينبغي أن تُبنى السياسة الخارجية على مصالح البلاد الإستراتيجية، وليس بالضرورة بشكل كامل على استقطابات الثورة، ولا حتى بناءً على من وقف مع الثورة/المعارضة وضدها.

المخاطر

مما لا شك فيه أن التحول الكبير الذي طرأ على دمشق بسقوط النظام وسيطرة المعارضة – وعلى رأسها هيئة تحرير الشام – شكل معضلة وهاجساً في الوقت نفسه لعدد من الأطراف الخارجية، ولكننا لا نبالغ إذا قلنا إن "إسرائيل" هي العدو الأكبر والأكثر ترصداً لسوريا الجديدة.

ويتجلى ذلك أولاً في جوهر المشروع الصهيوني منذ بداياته الأولى كأداة لخدمة مصالح الدول الاستعمارية في المنطقة، وتهديد لجميع دولها وشعوبها، كما يظهر في مبادئ السياسة الخارجية لـ "إسرائيل" بعد إعلان الدولة، والتي استلهمت الكثير منها من تنظيرات ملهم نتنياهو، زئيف جابوتنسكي، صاحب نظرية "الجدار الحديدي"، الذي دعا إلى إقامة "كومنولث عبري" تكون "إسرائيل" فيه القوة الإقليمية العظمى والمهيمنة، وتقود دويلات عربية ضعيفة ومقسمة على أسس إثنية ودينية وطائفية ومذهبية.

كما حدد أرييل شارون أمام الكنيست عام 1982 "المجال الحيوي لإسرائيل" بأنه "المنطقة التي تضم مصالحنا الإستراتيجية، وتشمل مناطق العالم العربي المتاخمة لإسرائيل كافة، إضافة إلى إيران وتركيا وباكستان وشمال أفريقيا وحتى زيمبابوي وجنوب أفريقيا"، وهي الرؤية التي توسعت لاحقاً.

وإذا كان ذلك قبل عقود شهدت تطورات كبيرة على صعيد علاقة "إسرائيل" بالمنطقة، فإن خطاب نتنياهو أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول 2023 قسّم المنطقة إلى مناطق "نعمة" وأخرى "لعنة" تشمل سوريا بطبيعة الحال، فضلاً عن أنه يتحدث في الحرب الحالية عن سعيه لرسم خرائط المنطقة وإعادة تشكيلها من جديد.

وإذا كانت كل ما سبق نظريات وتصريحات، فإن الأفعال أتت لتثبت صحتها وتؤكدها، بدءاً من استمرار احتلال الجولان، مروراً بالتوغل الأخير إلى مشارف دمشق، وتدمير السلاح السوري، وصولاً إلى الحديث عن ضرورة البقاء طويلاً في المنطقة العازلة لتأمين التفوق العسكري والأمني و"منع تكرار أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول"، وليس انتهاءً بالتصريحات التي تتناول القيادة الجديدة، وتحديداً أحمد الشرع، وهيئة تحرير الشام، باعتبارهم إسلاميين متشددين ولاعباً جديداً غير معروف التوجهات والسياسات تجاه "إسرائيل" في المستقبل.

في المحصلة، فإن الإجراءات "الإسرائيلية" الأخيرة إما أن تؤدي إلى احتلال مستدام أو طويل الأمد على أقل تقدير، أو تدفع نحو مسار الحوار السياسي والتفاوض من أجل الانسحاب (من موقع قوة هذه المرة)، ومحاولة فرض تطبيع العلاقات ضمن حزمة التفاهمات المفترضة، أو تساهم في تقسيم سوريا من خلال دعم فكرة الدويلات للأقليات، وفي كل الأحوال إبقاء أي حكومة مستقبلية لسوريا تحت الضغط العسكري والأمني المباشر بهدف التأثير على سياساتها الإقليمية، وخاصة فيما يتعلق بـ "إسرائيل" نفسها.

يوضح ما سبق أن "إسرائيل" لن تترك سوريا وشأنها، ولن تراهن على انشغالها بملفاتها الداخلية وأولوياتها الكثيرة، وأنها لن تقتنع بتصريحات الطمأنة بأن سوريا لا تقوى على مواجهات عسكرية، وأنها ستظل تنظر إلى سوريا دولة وشعباً كتهديد استراتيجي.

ويستدعي ذلك بالتالي إيلاء الأولوية لبناء عقيدة الدولة، الإستراتيجية والعسكرية والأمنية، التي تعتبر أولى وآكد من أولويات الخدمات اليومية للمواطنين، على الرغم من أهمية الأخيرة. فمن جهة، صحيح أن النظام الجديد ورث دولة متداعية وأن خبرته في إدارة الدول متواضعة، إلا أن مجرد وقف حالة الفساد السابقة والعمل بجد في المرحلة المقبلة سيكونان كفيلين بتحسن ملحوظ في الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في وقت قياسي.

ومن جهة أخرى، فالدولة تُبنى وفق رؤية إستراتيجية – عسكرية – أمنية، تبدأ بتحديد الذات والدور والمكانة، وتشمل العلاقات الخارجية ومنظومات التحالف والشراكة والتعاون والصداقة والخصومة والعداء، بما في ذلك مصادر التسليح والاتفاقات الأمنية والعسكرية، وليس على السياسات الاقتصادية التي تأتي تابعة لها.

ومن نافلة القول أن ذلك لا يعني المواجهة ولا افتعال الحروب بالضرورة، وإنما رسم سياسات النظام الجديد بما يحافظ على سوريا كما يريد شعبها، وفي إطار دورها ومكانتها، ووفق مصالحها الحيوية، وليس معادلات المرحلة السابقة بالضرورة، فضلاً عن أنه يبقيها قوية وقادرة على صد العدوان إذا وقع، فكيف به وقد بدأ ويبدو أنه سيستمر ويتعمق.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة